Asma LAMRABET

التقوى معيار التفاضل

 

 

 

يقول الله تعالى في آية تكتسي أهمية كبرى لكونها تقدم قيمة إنسانية جوهرية تهم الناس جميعا رجالا ونساء: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[1]. تُفتتح هذه الآية بتذكير الناس بأصلهم المشترك المتمثل في الذكر والأنثى اللذين خرجت من صلبيهما الإنسانية المتفرعة إلى شعوب وقبائل مختلفة.

إن تنوع الشعوب الكبير قادر على أن ينسيها أصلها المشترك ووحدة الخلق، بيد أن هذه الآية تؤكد على التنوع الذي أراده الله تعالى في الكون وتدعو مختلف الشعوب إلى التعارف لكي لا تنسى أبدا أصلها المشترك. فقد خلق الله تعالى جميع هذه الشعوب والأمم التي تختلف خصوصياتها ومميزاتها وثقافاتها ونمط عيشها، وخلق التنوع انطلاقا من وحدة الخلق لاختبار مجاراتنا لهذا التنوع وتقبلنا للآخر رغم اختلافه عنا. ألا يعتبر هذا تحديا للأنانية والذاتية التي طفت على سطح حياتنا المعاصرة؟

تحث الدعوة القرآنية للتعارف بين الشعوب، على الانفتاح على الآخر لتحقيق ثراء متبادل بغض النظر عن اختلاف ذلك الآخر أو عرقه أو ثقافته الأصلية. وتُسهم هذه المعرفة المتبادلة التي يتحدث عنها القرآن في إثراء التجارب الإنسانية بشكل متواصل ودائم عبر إسهام الآخر بكل خصوصياته التي يتميز بها لإعطاء أفضل ما لديه للكون الإنساني. ولا يفرق الله تعالى بين جميع الناس الذين خلقهم مختلفين، إذ لا وجود لشعب مُختار أو أمة مُفضلة لقوله تعالى "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".

إن المساواة بين جميع الناس مطلقة عند الخالق سبحانه وتتجاوز جميع خصوصيات العرق والأصل واللون والجنس. فالمعيار الإلهي الوحيد الذي ورد في القرآن يتمثل في التقوى. لكن ماذا تعني هذه "التقوى"؟

نجد مفهوم التقوى في القرأن الكريم يشمل العديد من المعاير الاخلاقية الاساسية كالعدل " و اعدلوا هو اقرب للتقوى" (المائدة 8) و الزاد "خير الزاد التقوى" ( البقرة 197) و العفو " وان تعفوا اقرب للتقوى" ( البقرة 237) ...فالتقوى دعوة للعالمين

على المستوى اللغوي، يحمل مصطلح "التقوى" معاني الوقاية والخشية. كما عرّفها النبي (ص) باعتبارها خصلة مكمنها داخل القلب في قوله عليه الصلاة والسلام: "التقوى هاهنا، التقوى هاهنا" وهو يشير بيده إلى صدره[2].

وسأل عمر بن الخطاب (ض) الصحابي أبيَّ بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى. قال: فما عملت؟ قال: شمّرتُ واجتهدت. قال: فذلك التقوى"[3]. وبالتالي فهي الجهد الذي بُذل لإزالة الشوك.

يقتصر مصطلح "التقوى"، في تعريفه الإسلامي التقليدي الضيق، في الغالب على مجال العبادات والأخلاق الفردية. ويُعرف كثيرا كسلوك ديني يتميز به أولئك الذين ينتمون إلى حركة صوفية تنشد التخلي عن ملذات الدنيا. وانطلاقا من هذا التعريف، فإن التقوى تحيل على الخوف من الله وخشيته أو كما قال عنها علي (ض): "هي الخوف من الجليل". وتحمل التقوى دون شك معاني الخوف من الخالق وخشيته لأنها شعور مشترك يحرك قلوب المؤمنين. فقد شددت جميع الشرائع على هذا الرابط بين التعبد والخوف من العقاب الإلهي. فهي مشاعر إنسانية عفوية متأصلة في الفطرة الإنسانية ودليل دامغ على وجود الله في أعماق الروح.

ولكن لا يمكن اختزال التقوى في معاني خشية الله، لأنها تعكس بُعدين مهمين يتمثل أحدهما في بعد داخلي يكمن في قلب المؤمن –كما عرفه النبي (ص)- والآخر في بعد خارجي يتمثل في إظهار هذه القيمة عبر أفعال وسلوكيات تكون مرآة عاكسة لهذه الفضيلة المتوارية في القلب. وهو ما ينطبق على تفسير الصحابي أُبي الذي اعتبرها اجتهادا شخصيا يقوم به كل رجل وامرأة بغية مواجهة التحديات ومصاعب الحياة.

يجب فهم معاني التقوى والعمل بها كقيمة روحية يفوح منها عبق حب الخالق وإجلاله، كما وجب ممارستها على أرض الواقع وتطبيقها في الحياة اليومية. فهي تطلع دائم للروح نحو الخالق، وتقربُ الإنسان الدائم إلى الله رب الأكوان عبر أعمال البر والخير، وامتلاك الوعي بوجوده في كل مكان واستحضاره بكل جوارحه في كل وقت وحين، وفي كل أعماله.

وعليه، يؤكد القرآن الكريم على المساواة بين جميع البشر الذين يقتصر معيار التفاضل فيما بينهم عند الخالق على التقوى بمعناها العام والواسع، وليس كما فهمها البعض بمعناها الضيق والمقيد بتدين عليل يفتقر لأي فعل إيجابي ولا ينعكس على الواقع. تقتضي التقوى دون شك عبادة الخالق والامتثال لأوامره، لكن عبادةً تنبض بالحياة والفاعلية والإبداع بحيث لا يمكن تحققها إلا بإعمال العقل وإنجاز العمل الصالح واستحضار الإيمان.

وفي هذا السياق، لا بد من وجود مساحة من "الحرية" من أجل التحلي بالتقوى لأن الإبقاء على الإيمان وبلوغ الرفعة يعني تخليص العقل من الماديات والأهواء، والارتقاء به إلى حرية لا حدود لها. كما يمكن القول بأن الإنسان التقي يملك إحساسا عميقا بالحرية. فقد قال روسو عن ذلك: "حرروني عبر حمايتي من أهوائي التي تعنفني، وامنعوني من أن أكون عبدا لها، وأجبروني على أن أكون سيد نفسي بعدم طاعة حواسي وإنما عقلي". وبالتالي، يجب على الرجال والنساء أن يتنافسوا على التقوى لنيل الجزاء من الخالق، لتصبح هذه القيمة الروحية عبر العمل والفضيلة قوة تحريرية تخلص المؤمنين والمؤمنات من القيود المادية الغرارة، وترفعهم إلى منزلة عليا نحو سماء الحرية المسؤولة.

إن خير الناس من رجال ونساء عند الله تعالى هم أولئك الذين تمكنوا من تحرير أنفسهم من أهوائهم وأناهم، ويبذلون مجهودا إضافيا للتعبد والقيام بأكبر قدر من الأعمال الصالحة في هذه الحياة، خدمةً للآخرين، كل الآخرين، كيفما كان أصلهم أو لونهم أو عرقهم. تعكس هذه الصورة أجمل أشكال المساواة بين الرجال والنساء، لأنها مساواة تُرسى في جو من الحرية وانخراط الفؤاد والتفاني في العمل.

 



[1] الحجرات:49.

[2] حديث رواه الصحابي عبد الرحمان بن صخر، أورده أبو طاهر السلفي، المشيخة البغدادية، الجزء 23.

[3]تفسير القرآن العظيم، الحافظ ابن كثير، المجلد الأول، تفسير الآية 1 و2 من سورة البقرة، صفحة 55، دار الحديث، القاهرة، 2002.

 اسماء المرابط 

2  رمضان 2021

À propos de l'auteur

ASMA LAMRABET

Native de Rabat (Maroc), Asma Lamrabet, exerce actuellement en tant que médecin biologiste à l’Hôpital Avicennes de Rabat. Elle a exercé durant plusieurs années (de 1995 à 2003) comme médecin bénévole dans des hôpitaux publics d'Espagne et d’Amérique latine, notamment à Santiago du Chili et à Mexico.

derniere video

Asma Lamrabet

Les femmes et l'islam : une vision réformiste