Asma LAMRABET

النساء والثورات العربية: أي تغيير؟



د. أسماء المرابط

ترجمة: بشرى لغزالي

 

ترمز الثورات العربية التي نشهدها اليوم للتغيير بكل ما للكلمة من معنى، فالعالم العربي يعيش اليوم تغيرات اجتماعية وسياسية حقيقية تُعتبر الأكثر أهمية وبروزا في تاريخه المعاصر.

هذه الأحداث المتفرقة التي تعرفها المنطقة منذ السنة الماضية تُعبر في الجوهر عن نفس التطلعات المشروعة، رغم اختلاف السياق الذي وردت فيه وخصوصياته الظرفية، ورغم فشل هذه الأحداث ونجاحها، مع ما رافقها من مآسي وأفراح؛ وهي جميعها تطلعات شعوب تطالب، بصوت عال وبقوة، بالكرامة والحرية والمواطنة الحقيقية والعادلة.

إن مستقبل مختلف هذه الثورات وما تلاها من سلسلة أحداث، حققت تغيرا ملموسا على أرض الواقع لا يمكن إنكاره. فقد تحرر النساء والرجال من الخوف والإهانة والمذلة واليأس، واستطاعوا المطالبة بقيم مشتركة عالمية يتقاسمها جميع المستضعفين في الأرض، وكان ذلك على حساب الدماء والأرواح. لقد نجح أصحاب مبادرة التغيير في أن يُثبتوا بإرادتهم أن الظلم الذي كانوا يعيشون فيه لم يكن قدرا مُحتما، وإنما كان أمرا ممكن التغيير.

لقد فاجأت هذه الثورات الرأي الدولي، وبدأ العالم بأسره يُكوَن رؤية جديدة عن هذه المنطقة من العالم التي كان يُظن أنها تعيش دوما على هامش تاريخ الديمقراطيات. هذه المُسَلّمة زعزعتها الثورات كما زعزعت مُعتقدات كثيرة ربطت العالم العربي-الإسلامي- ليس فقط برفض كل ما هو ديمقراطي وحداثي، وإنما أيضا، وعلى وجه الخصوص، برفض عالم كانت النساء فيه ضحايا تهميش واستبداد تاريخي.

الثورات العربية: التغيير الذي زعزع الأفكار المسبقة عن النساء العربيات والمسلمات

لقد استطاعت الثورات العربية أن تدحض إحدى الصور النمطية التي ترسخت أكثر من غيرها في الأذهان عن العالم العربي. هذه الصورة تتمثل في صمت النساء وملازمتهن البيوت. بيد أن واقع الثورات أثبت، على العكس من ذلك، حضورا قويا للنساء ظهر جليا في مشاركتهن القوية في المظاهرات التي كانت حدثا مشهودا أذهل الجميع.

حضرت النساء في قلب المظاهرات واضطلعن من خلالها بدور طلائعي في تعبئة مجتمعاتهن السياسية، وبذلك برزت وجوه نسائية عربية عديدة في الساحة السياسية، من أمثال لينا مهنا، المدونة التونسية الشابة التي كانت أول من أخطر الصحافة الدولية بالجرائم التي طالما ارتكبها النظام السابق في حق أوائل المتظاهرين الذين انتفضوا في ثورة الياسمين؛ وكذا المصرية أسماء محفوظ التي دعت الرجال المصريين، من خلال شريط فيديو ذائع الصيت بُث على شبكة الإنترنت، للالتحاق بساحة التحرير باسم الشرف لإسقاط نظام مبارك؛ وفدوى سليمان، الممثلة السورية المعروفة التي أعلنت عن معارضتها لاستبداد حزب البعث الحاكم وطغيانه؛ أما في اليمن، هذا البلد المحافظ، فقد برزت فيه الصحفية الشابة توكل كرمان، الفاعلة في حقوق الإنسان والتي تزعمت المظاهرات ضد النظام اليمني على مدى عدة أشهر. وهي نفس المرأة التي حصلت على جائزة نوبل للسلام لسنة 2011، إذ تُعتبر هذه المرة الأولى التي تحصل فيها امرأة عربية على هذه الجائزة مناصفة مع نساء إفريقيات، وأصغر امرأة تحوز على هذه الجائزة. ولم تزعزع نساء الثورات العربية قلب الحكم الدكتاتوري فقط، بل كسرن أيضا أساطير قديمة كانت تتكرر على الأسماع بما فيها تلك المتعلقة بضعف المرأة العربية واعتبارها ضحية أزلية.

وعموما، لا تخفى هذه الخطابات الحديثة التي ما تزال رائجة، والضجة الإعلامية التي تُثار باستمرار عن النساء العربيات والمسلمات، وعن وضعهن القانوني الغامض وتحريرهن المتأخر أبدا، وكذا الوصاية الثقافية التي يخضعن لها، و"برقعهن" و"حجابهن". تلك الصور النمطية التي أدت إلى بناء صورة راسخة في المُتخيل العام المعاصر والتي تظهر فيها النساء خاضعات وتابعات؛ هي صورة معقدة تكرس بمكر فكرة اللامساواة بين الجنسين بما يوحي بأن غياب المساواة هذا أمر لصيق بالعالم العربي الإسلامي، إن لم يكن من خصوصياته، وننسى في الغالب أن ثقافة التمييز ضد النساء ثقافة عالمية وليست محلية أو إقليمية. فالتمييز ضد النساء واقع له طابع عالمي، ولكل محيط سوسيوسياسي وجغرافي وثقافي علاقات هيمنة خاصة به.  

لقد شكل غياب المساواة في الحقوق بين النساء والرجال القاعدة خلال قرون؛ ورغم مكتسبات الحداثة التي لا يمكن إنكارها، يبقى وضع النساء الثانوي في المجتمعات ظاهرة تمر بها جميع الثقافات والحضارات. وخير مثال نقدمه في هذا السياق للدلالة على عالمية اللامساواة  يتمثل في تنصيب 7 نساء رئيسات دول في مقابل 143 رجل في منصب رئيس دولة!

أي تغيير للنساء  العربيات عقب الثورات؟

إذا صح القول أن هناك إعادة نظر حقيقية في الصور النمطية التي تتعلق بالنساء العربيات في ظل هذه الثورات، فإن ظهور النساء في مقدمة المشهد العام ليس أمرا جديدا.

يجب أن نحدد في بادئ الأمر أن القيادة النسائية ليست وليدة هذه الثورات العربية، وإنما سبق ذلك نضالٌ مَشَت على دربه النساء العربيات لسنوات طويلة منذ النهضة العربية؛ فقد ساهمن منذ القدم في جميع الميادين المُجتمعية مساهمة فعالة لا يمكن إنكارها.

 رغم كل التقدم الذي أحرزته النساء في مختلف البقاع وجميع السياقات، إلا أنه لا بد من الاعتراف أنهن بقين، في معظم الحالات، رهينات بين آمالهن في العيش والانخراط في الحداثة انخراطا كاملا، وبين وصاية ثقافية تُفرض عليهن في الغالب مدعومة بخطاب ديني قوامه التمييز.

نتيجة لهذا الوضع، تجد أغلب المسلمات اليوم أنفسهن "متخبطات" بين عادات وتقاليد تُنقص من قيمتهن باسم قراءة مغلوطة للدين، وبين حداثة "مثالية" يُفترض فيها أن تحررهن من جميع الأزمات. هذا هو الواقع الذي تعيشه نساء ألِفْن مجبرات ممارسة الدين لا كاختيار وإنما كثقافة فُرضت عليهن مع خضوعهن في نفس الوقت للآثار السلبية والإيجابية لحداثة أُريد لها أن تكون متناقضة مع كل القيم الروحية والتي تبقى أكثر جاذبية من خلال الشعارات المرفوعة التي تدعو إلى الحرية والتحرر.

هذه هي معادلة الحداثة التي تعيشها النساءُ المسلمات اليوم، فهن أمام امتحان موازنة شاقة تبدو لهن كلما حاولن المصالحة بين كل من الإيمان والقيم الروحية من جهة، ومبادئ التحرير والحرية من جهة أخرى. تبدو هذه الموازنة صعبة أو بالأحرى متعارضة مع القيم الإسلامية، بيد أن هناك خللا في هذا المُعتقَد الخاطئ، لأن الرسالة الروحية للإسلام لم تتعارض قطً -كما هو الحال بالنسبة لجميع القيم الروحية- مع قيم الحرية والتحرر الإنسانية، بل على العكس من ذلك، ما جاءت هذه الرسالة إلا للتأكيد على هذا البعد التحرري الذي هو جوهر الدين الإسلامي، وما جاء البعد عن هذه القيمة إلا من قِبل بعض التأويلات والتفسيرات الحرفية التي أسست لهذه الأفكار الخاطئة في كثير من العقليات. يجب أن نرفض هذه التصورات الثنائية والمختزلة التي تفرض على النساء المسلمات الاختيار بين حداثة يُفترض ألا ترتبط سوى بالثقافة الغربية، وقيم روحية يُنظر إليها عموما باعتبارها قيما مُتجاوزة.

ولا بد من أن نوضح في هذا السياق أن المفاهيم العالمية مثل الحرية والتقدم والعقل ليست حكرا على الحضارة الغربية، وإنما هي قيم ترتبط بعالم ثقافي مشترك تنتمي إليه الإنسانية جمعاء، لم يخل فيها الأثر الإسلامي الذي أمدها بقيم سامية تفوق التصور.

بالإضافة إلى هذا، وجب التأكيد على أن الحداثة لا تعني مقاطعة ماضينا أو تاريخنا أو حضارتنا، بل لا بد أن تكون عامل دفع لهذا التراث وسببا للرقي به. ولا يتعلق الأمر هنا بالتوقف عند الماضي والانغلاق في قراءة تقليدية تُضفي المثالية عليه، وإنما المراد إعادة قراءته بشكل مرتبط بالواقع، فثقافة خضوع النساء –والرجال أيضا- تتم في الغالب باسم الدين. ولهذا تحاول حاليا الكثير من النساء العربيات استرجاع تاريخهن ومرجعهن الذي خضع لمدة طويلة لقراءة تمييزية.

علاوة على ما ذكرنا، يرمز ظهور النساء في هذه الثورات إلى انبثاق نهضة نسائية جديدة بدأ حراكها قبل الثورة، ومثلتها نساءٌ دفعن في اتجاه مسار ثالث يُوفق بين انتمائهن الروحي وحداثتهن، وبين حقوقهن وواجباتهن. فليس لنا أن نختار بين الحداثة والقيم الروحية لأنه وبكل بساطة لا يستقيم أحدهما دون الآخر: فالحداثة التي تغيب عنها القيم الروحية هي جسد بلا روح... والقيم الروحية التي تفتقر للحداثة تكون بعيدة عن الواقع.

أي مكاسب للديمقراطية والنساء في ظل هذه الثورات؟

سيكون من المبكر أن نعد تقييما مفصلا أو حصيلة دقيقة عن التغيرات التي يمكن أن تحملها هذه الثورات لصالح النساء في المستقبل ولفائدة جميع المجتمعات العربية على حد سواء. لكن المؤشرات التي نلمح في مختلف الأقطار غير مشجعة! ونذكر هنا أن واقع حال تاريخ ما بعد جميع الثورات التي عرفتها الإنسانية خذلت النساء.

لقد تعرضت النساء اللواتي كُن يتصدرن دائما مقدمة الثورات الكبرى، فيما بعد للتهميش وطُلب منهن بكل لطف العودة إلى منازلهن، وهذا ما شهدته الثورة في فرنسا وروسيا والمقاومة ضد الاستعمار في المغرب العربي، وهو أيضا حال مصر اليوم حيث نجد مثلا محاولات لاسترجاع ذلك الاندفاع الأول والتلقائي الذي عرفته أولى الثورات. فمثلا في الوقت الذي كانت فيه الشابات حاضرات في ساحة التحرير معرضات حياتهن للخطر، كان بعض مناضلي الإخوان المسلمين وجمعيات سلفية مختبئين في مساكنهم. أما غداة الانتخابات، فقد اقترحت نفس هذه الحركات عددا قليلا جدا من النساء. وهذا التمييز لا يقتصر على الإسلاميين فحسب، بل تعدى جميع الإيديولوجيات لتُجسدها بشكل واضح "اختبارات العذرية" التي فُرضت على النساء اللائي شاركن في المظاهرات من لدُن عسكريين من نفس البلد.

أما في المغرب، ورغم الإصلاحات التي عرفتها المدونة، ومطالب شباب 20 فبراير، والدستور بمادته 19 التي تنص على المساواة بين النساء والرجال، فما نلاحظه في الواقع السياسي هو أمر مُخيب للآمال بعد تعيين امرأة واحدة في الحكومة المغربية، بيد أننا نجد في نفس الوقت، وهي من الغرائب في بلاد المغرب، أنه غداة تعيين الحكومة التي تضم بالكاد امرأة واحدة، عُينت امرأة على رأس حزب سياسي، الحزب الاشتراكي الموحد، نبيلة منيب، وهذا التعيين هو الأول من نوعه في تاريخ هذا البلد!

لقد ثارت النساء العربيات من خلال هذه الثورات ضد خطابين، أحدهما يتمثل في الثقافة التقليدية والآخر يتجلى في الاستبداد السياسي. وفي هذا السياق، وجب أن نستمر في اتجاه السعي نحو تفكيك هذه الثنائية: الظلم الاجتماعي والحيف التقليدي. وبالعمل على هذين الجانبين أي الديمقراطية وإصلاح الفكر الديني، يُمكن للتحولات الاجتماعية أن تحظى بفرصة تجسيدها على أرض الواقع. وستواجه عملية التحرير هاته مقاومة كبيرة لا محالة، إلا أن دينامية النساء لن تتوقف مهما كانت العراقيل، لأن التاريخ العربي لا يمكنه أن يُخط ويُصنع بعد هذا الحراك دون وجود النساء.

 

 

 

 

À propos de l'auteur

ASMA LAMRABET

Native de Rabat (Maroc), Asma Lamrabet, exerce actuellement en tant que médecin biologiste à l’Hôpital Avicennes de Rabat. Elle a exercé durant plusieurs années (de 1995 à 2003) comme médecin bénévole dans des hôpitaux publics d'Espagne et d’Amérique latine, notamment à Santiago du Chili et à Mexico.

derniere video

Asma Lamrabet

Les femmes et l'islam : une vision réformiste